لعنة الفراعنة

الطاهر الطويل

كلما اتسع مجال الإبداع الساخر ـ ولا سيما الحامل لموضوعات سياسية ـ إلا وكان ذلك مظهرا من مظاهر اتساع حرية الرأي والتعبير وتكريس الديمقراطية.
في جل البلدان الغربية، لا يخشى السياسيون من السخرية، سواء تجلت في الكاريكاتير أم في الأعمال الكوميدية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والمقالات الصحافية الساخرة.
أما في الدول العربية فإن السياسيين لا يرغبون في رؤية وجوههم في مرايا النقد، بل ينتظرون من الإعلام أن يقوم بدور واحد فحسب: تلميع صورهم وتجميلها وإبعاد أية مذمة عنها.
ضمن هذا الإطار، شكّلت مصر الريادة في الوطن العربي لعلاقة النقد بالسلطة، ومن يقرأ كتاب «كيف يسخر المصريون من حكامهم» الصادر قبل نحو ثلاثين سنة، يكتشف إلى أي حد ازدهرت النكتة السياسية في أرض الكنانة خلال ذلك العهد.
أما اليوم، فإنّ مَن يرغب في خوض هذا الرهان، رهان السخرية السياسية، مُطالَبٌ بالبحث عن فضاءات إعلامية خارج البلد، ما دامت صدور الحكّام تضيق عن تلقّي النقد والتعليق والرأي الآخر.
لذلك، وجدنا يوسف حسين، الشهير بـ «جو»، اختار الفرار بجلده إلى قناة «العربي» من أجل إسماع صوته عبر برنامج سياسي ساخر (شو)، حافل بالمستملحات والتعليقات الذكية والانتقادات القوية.
وبالطبع، فإن عبد الفتاح السيسي ينال نصيبا وافرا من «قفشات» الكوميدي المذكور، ولا سيما حين يتشكى الرئيس المصري من كثرة الشائعات التي تحوم حوله وحول البلد، فيتلقف الإعلام ـ ولا سيما التلفزيونات الحكومية والخاصة ـ هذه الشكوى ويردد أنه جرى رصد 21 ألف إشاعة في مصر خلال ثلاثة أشهر فقط، منحيا باللائمة على وسائط التواصل الاجتماعي. ويتجاهل الإعلام «المُطبّل» أنه جزء من هذه الأزمة، أزمة غياب الثقة وقلب الحقائق، وليس جزءا من الحل، لأنه يمارس الديماغوجيا ومغالطة الرأي العام وإشاعة التمويه والتركيز على موضوعات هامشية لتحويل انتباه الرأي العام عن القضايا اليومية.
لكنّ الإعلاميّ الساخر يوسف حسين لا يفوّت أية فرصة إلا ويفضح تفاهة ما يُقدّم في التلفزيونات المصرية الحكومية والخاصة، من خلال اختيار مقاطع محددة والتعليق عليها.
وفي هذا الصدد، خُصّصت إحدى الحلقات الأخيرة من برنامج «جو شو» لما سُـمّي «لعنة الفراعنة»، حيث قامت الدنيا ولم تقعد باكتشاف ما قيل إنه تابوت أثري يضمّ مومياء للإسكندر الأكبر، ورَدَّد «نجوم» القنوات المصرية إنه لو فُتِحَ التابوت فإن الكون سيُظلم لمدة 1000 سنة، إذ سيؤذن ذلك بنهاية العالم نتيجة «لعنة الفراعة».
ليتبين فيما بعد أن «التابوت» كان يضم ثلاث جمجمات وليس واحدة فقط، وأنه كان مغمورا بمياه قنوات الصرف الصحي. وبما أن أكثر من 4000 شخص يريدون شرب ذلك الماء الأحمر (ربما للتبرك به)، فقد تفتقت عبقرية أحمد موسى الفذة عن فكرة خلاقة، إذ قال جادا وليس هازئا: لننظم لهم رحلة من أجل شرب مياه المجاري!
أما «جو شو» فاقترح معلقا من باب السخرة: «لنجعله مشروبا عالميا لتنشيط السياحة المصرية!» وهكذا ستصير مياه القاذورات علامة تجارية تدلّ على ازدهار أم الدنيا في عهد السيسي الذي يردد في كل خطبه عبارة «صدقوني… صدقوني»، كما لو أنه يعرف في قرارة نفسه أن كل أفعاله وأقواله مجرد إشاعات.
تماما مثلما فعل مسؤول مصري حينما صرح للتلفزيون بخصوص الجماجم الأثرية المكتشفة، إذ قال: واضحٌ من الكسر الموجود في الرأس أنها لرجُل عسكري! كسر في الرأس دليل على كونه عسكريا. يا للعجب! «وكم ذا بمصر من المضحكات… ولكنه ضحك كالبكا» كما قال أبو الطيب المتنبي قديما.

ضريبة الاستقامة على قناة «الشرق»

أما المضحكات/ المبكيات في المغرب فكثيرة أيضا (حتى لا «يزعل» الإخوة المصريون) ومن ضمنها ما حدث مع طبيب أراد أن يخلص في مهنته ويؤدي واجبه بصدق وأمانة، فلجأت الإدارة إلى معاقبته، بالإحالة على المجلس التأديبي أولا، وبرفع دعوى قضائية ضده ثانيا، وبمحاولة التشهير به ثالثا.
إنه الدكتور المهدي الشافعي، الذي خصص له الإعلامي معتز مطر إحدى حلقات برنامجه الشهير في قناة «الشرق» المعارضة، ضمن اهتمامه ببعض القضايا المغربية، لدرجة تفوّقه في ذلك على القنوات التلفزيونية المحلية.
لُقّب المهدي الشافعي بـ«طبيب الفقراء» لكونه يستحضر ضميره المهني وواجبه الإنساني، ويعالج المرضى مجانًا في مدينة صغيرة نائية اسمها تزنيت، لكنه يُجابَه بالعديد من العراقيل من طرف بعض زملائه ومن طرف المسؤولين الإداريين الذين اختلقوا حوله إشاعات وحملات تشويه. كل ذنبه أنه يفضح ما يعتبره ممارسات فساد في القطاع الصحي، ويطالب بتحسين الخدمات الاستشفائية.
ذلك جزء من سيرة «طبيب الفقراء» كما استحضرها معتز مطر، الذي قال إن مشكلة الرجل أنه يريد أن يكون مستقيما في منظومة فاسدة ومهترئة وفاشلة، فكان جزاؤه أن أحيل على مجالس تأديبية من أجل إضعاف عزيمته، خصوصا في منطقة يشكو مواطنوها الفقراء من وضع صحي سيىء.
كما رُفعت ضده دعوى قضائية بذريعة رفض معالجة طفل وتوجيه المرضى نحو محل بعينه لاقتناء مستلزمات طبية وإفشاء السر المهني. باختصار: إنه يؤدي ضريبة الاستقامة، مثلما يشهد له بذلك المواطنون الذين نظموا تظاهرات عفوية تضامنًا مع «طبيب الفقراء».

(نشر بتاريخ 3 أغسطس 2018)

ذات صلة